هجوم بَرّي… “حزب الله” ينتظر بفارغ الصبر!
تتوالى رسائل التنبيه والتحذير من مغبّة توسّع نطاق الحرب وأمدها في جنوب لبنان، وآخرها ما تبلّغه مسؤولون من جهات ديبلوماسية وازنة. ويحكى عن خشية حيال احتمال التصعيد وتوسيع نطاق القصف، ما قد يستجرّ ردوداً عنيفة تدفع بالأمور صوب الهاوية ويؤدي إلى صعوبة التوصل للحلول.
يبني أصحاب الفرضية أعلاه رأيهم على مسألة “ميزان القوى”. بحيث أن المعيار يصبح أن “فريقاً لا بدّ من كسره حتى يتسنّى للفريق الآخر فرض شروطه”. وفي هذا الإطار، يتولى دبلوماسيون إبلاغ رسائل من أن لبنان سيكون متضرراً من توسيع المعركة. لكنهم يتجاهلون في الوقت عينه قدرات “حزب الله”، التي عمل أخيراً على ترجمتها في الجنوب والقادرة على فرض التوازن أو كسره، وهو ما يُعبِّر عنه الإسرائيليون أنفسهم.
في المقابل، ثمة رأي آخر مناقض تماماً للفكرة السابقة لكنه “طابش”. بحيث يُعتقد أن احتمالات الوصول إلى تصعيد أوسع وأكبر في جنوب لبنان “كبيرة”، أو أنها قد تكون مطلوبة في مرحلة من المراحل لإعادة الجميع إلى نقطة معينة، ما قد يدفع إلى تعجيل الوساطات، وبالتالي، زيادة إمكانية التوصل إلى حلول. في هذه الأثناء، تشير وقائع الميدان إلى أن المقاومة والعدو معاً، في طور الذهاب أم أنهما يذهبان بشكلٍ متدرّج صوب التصعيد، رغم أن ما يظهر منه إلى الآن يوحي أنه مدروس ومضمون بسريان المواجهة على أساس النقاط، وبالتالي، تصبح محكومة بمبدأ الضربة مقابل الضربة، وأحياناً تحصل الضربات على أساس “الوزن”. فتقوم المقاومة (أو العدو) بالردّ وفق نفس الترتيب، لكن أحداً لا يضمن كيف ستكون عليه الأمور في اليوم التالي، وما قد تؤدي إليه هذه الضربات، وهو ما يدفع بديبلوماسيين معتمدين في بيروت إلى تهيّب اللحظة وتوزيع الرسائل.
ضغط على الحكومة والحزب؟
غير أن هذه الرسائل، في مكانٍ ما، يُفهَم منها أنها ترمي إلى محاولة ترهيب الحكومة اللبنانية أو المفاوض اللبناني لدفعه إلى التنازل أو الضغط على المقاومة من أجل انتزاع مواقف معينة منها. وهذا يؤدي إلى إدراك أساسي في أن الخارج يتعامل مع الحكومة على أنها جهة متكيّفة مع الدور الذي تؤديه المقاومة جنوباً. وتحظى هذه النظرية باهتمام لدى الفريق السياسي المعارض للحزب، فيقوده إلى “التهويل” من باب أن أي توسيع محتمل للمعركة سيأخذ في طريقه لبنان بأسره ربطاً بموقف الحكومة. غير أن الوقائع المتجمّعة لدى أكثر من فريق سياسي وأمني، تُجمع لغاية اللحظة، على أن إسرائيل تحاول “تحييد” مناطق بعينها، ظناً منها أنها تسهم في تأجيج النزاع الداخلي حول مآلات الحرب في الجنوب وعلى من تقع المسؤولية، وفي ذلك رهان إسرائيلي واضح في محاولة التأثير أو إرباك المقاومة داخلياً.
على الرغم من ذلك، يبدو التصعيد الإسرائيلي الحالي محكوماً بضوابط معينة، رغم أنه يعبّر في أكثر من مكان عن نيته بالتصعيد جغرافياً، أي أنه يرمي إلى توسيع نطاق القصف كي يطال مناطق معينة، ليوحي أنه صاحب المبادرة. غير أن هذه الخلفية تصطدم بنية مقابلة لدى المقاومة بالتصعيد وهي التي برهنت خلال الفترة الماضية عن أن الموقف لديها مبني على “التصعيد مقابل التصعيد” وفق معطيات مدروسة. إلى ذلك، يبدو التصعيد الإسرائيلي محكوم بالضربات التي يتلقاها، لا سيما في مسألة إسقاط أنواع مسيّرات “الهيرمس” المختلفة، إذ يصبح تفوّقه الجوي على المحكّ، وهو ما يربك حكومة العدو والجيش والصحافة والمستوطنين في آن معاً، الذين يعتبرون أن التفوّق يترك يد إسرائيل طليقة أو عالية في الميدان، ويصبح أن تضرّر التفوق ستكون له انعكاسات كبيرة الحجم على شكل القوة الإسرائيلية ومسألة التوازن في القوى العسكرية ويترك آثاره مستقبلاً.
إسرائيل تتهيّب العمل البرّي
غير أن أي تصعيد من جانب العدو، وإن لم يواكب بعملية برّية، فإنه لن يؤدي الغرض منه، وهو ما يعدّ بالنسبة إلى العدو مشكلة كبيرة. حيث أن الدراسات الصادرة عن كبريات مراكز الأبحاث الإسرائيلية، لا تعطي كفة التفوّق العسكري البرّي الحالي لمصلحة الجيش، إنما تزيد من الحديث حول احتمالات نشوب حرب كبيرة في الشمال، ومدى الأضرار التي سوف تتسبّب بها تبعاً لقدرات “حزب الله” الحالية. ووفقاً لذلك، نرى أن الإنتشار العسكري الإسرائيلي البرّي الحالي ضمن مستعمرات الشمال، ليس مندرجاً من ضمن الوضعيات الهجومية إنما الدفاعية، وهذا يمتد منذ 8 تشرين الأول الماضي. أضف إلى ذلك، أن تموضعات الجنود ضمن الحيّز الجغرافي الحالي المحدّد للعمليات العسكرية (أي ضمن نطاق الـ7 إلى 10 كلم)، يوحي بتبادل أدوار واضح من جانب تل أبيب. فالأخيرة انتقلت إلى اعتماد أسلوب التخفّي العسكري الأقرب إلى حرب العصابات، بينما يعمل الحزب بظروف أفضل وراحة أكبر عند جانبي الحدود، على الرغم من اعتماد إسرائيل على المسيّرات بهدف تمشيط المنطقة الحدوية بشكلٍ واضح. في المقابل، يبرز “حزب الله” في كل مرّة إتجاهاً واضحاً للتعبير عن أنه موجود عند الشريط الحدودي وسيبقى، وأنه ليس ملزماً بأي “ترتيب للوضع المقبل” بالتراجع ولو متراً واحداً إلى الخلف، وهذا أفضل تعبير عن وضعية الحزب الحالية في الجبهة. بالإضافة إلى ذلك، يتعمّد “حزب الله”، بمناسبة أو من دون مناسبة، أن في مقدوره التحرّك برّاً تجاه المواقع الإسرائيلية متى أراد، وهو يترك ذلك للإستخدام الآن في إطار “فرض الردع” على إسرائيل. في هذه الخانة، ثمة إشارة واضحة إلى نقطة ضعف إسرائيلية أخذت تربك خلال الفترة الأخيرة المعلّقين الإسرائيليين، كما وسائل الإعلام العبرية، وتتعلق بمظاهر أخذت تظهر على الجيش من أنه يتهيّب أي معركة برّية مع الحزب أو أنه يتجنّبها. وعلى الرغم من تهديدات متتالية يطلقها كبار القادة الإسرائيليين، غير أن ما يظهر على الأرض يكشف أن الجنود الإسرائيليين يتحرّكون عملياً بعيداً عن الحدود وتشهد تحركاتهم نوعاً من الحيطة. وخلافاً للحروب السابقة، لم تقم إسرائيل حالياً بأي إجراء من شأنه أن يظهر بأنها تقوم باستعدادات برّية عند الحدود، إنما أخذت تعتبر أن الإنتقال إلى هذه الفرضية في مثل هذا الوقت، سيرتّب تدابير عكسية على إسرائيل. في المقابل، يتصرف الحزب بكثير من الحرية عند الشريط الحدودي. ومؤخراً بث الإعلام الحربي أشرطة فيديو تظهر مقاتلين يتحركون في محاذاة موقع “راميا” الإسرائيلي عند القطاع الغربي من الجنوب، ويقومون بقصفه من مواقع قريبة جداً، كما سبق لهم أن نشروا مشاهد مماثلة لعمليات قصف موقع آخر من على بعد حوالي 300م.
على هذا الأساس، يفهم أن إسرائيل تزيد من ضغوطها في مجال توسيع نطاق القصف تعويضاً عن عدم القدرة البرية وهو ما تطمح إليه فعلياً، وعمليا ًلا تغيير في المعادلات القائمة أقلّه بالنسبة إلى إسرائيل، من دون أن تترافق وعمل برّي، يبدو أن الحزب ينتظره بفارغ الصبر.